فصل: تفسير الآيات (10- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (10- 12):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)}
يقول الحق جلّ جلاله: {أفلم يسيروا} أي: أَقعدوا فلم يسيروا {في الأرض} يعني كفار مكة، {فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم} من الأمم المكذبة؟ فإنّ آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم، فقد {دَمَّر اللَّهُ عليهم} فالجملة: استئناف مبني على سؤال، كأنه قيل: كيف كان عاقبتهم؟ فقيل: استأصل الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، يُقال: دمّره؛ أهلَكه، ودمّر عليه: أهلك عليه ما يختص به، قاله أبو السعود. وفي الصحاح: الدمار: الهلاك، دمّره تدميراً، ودمَّر عليه، بمعنى. اهـ. فظاهرة: أن معناهما واحد، وفسره في الأساس بالهلاك المستأصل، وقال الطيبي: في دمّر عليهم تضمينُ معنى أطبقَ، فعُدي بعلى، ولذلك استأصل. اهـ.
{وللكافرين} أي: ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرَتِهم {أمثالُها} أي: أمثال تلك الهلكة المفهومة من التدمير، أو أمثال عواقِبهمْ أو عُقوبَاتهم، لكن لا على أنّ لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافَه؛ بل مثله، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة، حسبما تعدّد الأمم المعذّبة، ويجوز أن يكون عذابُهم أشدّ من عذاب الأولين فقد قُتلوا وأُسروا بأيدي مَن كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم، والقتل بيد المثل أشد ألماً من الهلاك بسبب عام، وقيل: دمَّر اللّهُ عليهم في الدنيا، ولهم في الآخرة أمثالُها.
{ذلك} أي: نصرُ المؤمنين وهلاكُ الكافرين في الحال أو المآل {بأنَّ اللّهَ مولى الذين آمنوا} أي: ناصِرُهم ومعِزَّهُم {وأنَّ الكافرين لا مولى لهم} فيدفع عنهم ما حَلّ بهم من العقوبة، ولا يخالف هذا قوله: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] لأن المولى هناك بمعنى المالك.
{إِن الله يُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتِ تجري من تحتها الأنهارُ} وهذا بيان لحكم ولاية الله لهم وثمرتها الأخروية، {والذين كفروا يتمتعون} في الدنيا بمتاعِها أياماً قلائل، {ويأكلون} غافلين عن عَواقبهم، غير متفكرين فيها {كما تأكل الأنعامُ} في مسارحها، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح، فالتشبيهُ بالأنعام صادقٌ بالغفلةِ عن تدبير العاقبة، وعن شكر المنعِم، وبعدم التمييز للمُضر من غيره، كأكل الحرام وعدم تَوَقيه، وكذا كونُه غير مقصورٍ على الحاجة، ولا على وقتها، وسيأتي في الإشارة إن شاء الله. {والنارُ مثوىً لهم} أي: منزلُ ثوَاه وإقامته، والجملةُ إما حال مقدرةٌ من واو {يأكلون}، أو استئناف.
الإشارة: تفكُّر الاعتبار يكون في أربعة، الأول: في سرعة ذهاب الدنيا وانقراضها، كأضغاث أحلام، وكيف غرَّت مَن انتشب بها، وأخذته في شبكتها، حتى قدِم على الله بلا زاد، وكيف دَمّر اللّهُ على أهل الطغيان، واستأصل شأفتهم، فيُنتج ذلك التشمير والتأهُّب ليوم الجزاء. الثاني: في دوام دار البقاء، ودوام نعيمها، فينتهز الفرصة في العمل الصالح،. الثالث: في النِعَم التي أنعم الله بها على عباده، الدنيوية والأخروية، الحسية والمعنوية، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] فينْتِج ذلك الشكر، لتدوم عليه. الرابع: في نصب هذه العوالم، على ما هي عليه من الإبداع والإتقان، فيُثمر ذلك معرفةَ الصانع، وباهرِ قدرته وحكمته.
وقوله تعالى: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا...} إلخ، قال القشيري: المَوْلَى: المحِبُّ، فهو محب الذين آمنوا، والكافرين لا يُحبهم، ويصح أن يُقال: أرجى آيةٍ في القرآن هذه الآية، لم يقل مولى الزُهّاد والعُبّاد وأصحاب الأورادِ والاجتهاد: بل قال: {مولى الذين آمنوا} والمؤمن وإن كان عاصياً فهو من جملتهم. اهـ. والمحبة تتفاوت بقدر زيادة الإيمان والإيقان حتى يصير محبوباً مقرباً.
قوله تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام} وكذلك الغافل، فالأنعام تأكل بلا تمييز، من أي موضع وجدت، كذلك الجاهل، لا تمييز له من الحلال أو من الحرام، والأنعام ليس لها وقت لأكلها، بل تأكل في كل وقت، وكذلك الغافل والكافر. فقد ورد «أن الكفار يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يجتزئ بما تيسّر»، كما في الخبر: «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرّاً من بطنٍ» والأنعام تأكل على الغفلة، فمَن كان في أكله ناسياً لربه، فأكلُه كأكل الأنعام. انظر القشيري.

.تفسير الآيات (13- 14):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}
قلت: {كأيّن}: كلمة مركبة من الكاف وأيّ، بمعنى كم الخبرية، ومحلها: الرفع بالابتداء، وقوله: {هي أشد}: نعت لقرية، و{أهلكناهم}: خبر، وحذف المضاف، أي: أهل قرية، بدليل {أهلكناهم}.
يقول الحق جلّ جلاله: {وكأيِّن من قريةٍ} أي: كثير من أهل قرية {هي أشدُّ قوةً من قريتك} مكة، {التي أخرجتك} أي: تسببوا في خروجك، أي: وكم من قوم هم أشدُّ قوةً من قومك الذين أخرجوك، {أهلكناهم} بأنواع العذاب، {فلا ناصرَ لهم} فلم يكن لهم مَن ينصرهم ويدفعُ العذابَ عنهم، فأنتم يا معشر قريش أهونُ منهم، وأولى بنزول ما حجل بهم.
{أفمَن كان على بينة من ربه} أي: حُجةٍ واضحةٍ، وبرهانٍ قاطع، وهو القرآن المعجزُ، وسائر المعجزات، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، {كمن زُيِّن له سوءُ عمله} وهو أهل مكة، زين للشيطانُ شركَهم وعداوتَهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم {واتبَعوا أهوائهم} الزائغة، ونهمكوا في فنون الضلالات، من غير أن يكون لهم شُبهة توهم صحة ما هم عليه، فضلاً عن حُجةٍ تدل عليها. وقيل: المراد بمَن كان على بينة: المؤمنون فقط، المتمسكون بأدلة الدين.
قال أبو السعود: وجعلُها عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين، لا يُساعد النظم الكريم، عى أن الموازاة بينه صلى الله عليه وسلم، وبين مَن زُيّنَ له سوءُ عمله مما يأباه مَنصِبُه الجليل. والتقدير: أليس الأمر كما ذُكِر؟ فمَن كان مستقرّاً على حُجةٍ ظاهرة، وبرهانٍ نيّر من مالكٍ أمره ومُربّيه، وهو القرآن، وسائر الحجج العقلية، {كمَن زُين له سوء عمله} من الشرك وسائر المعاصي، مع كونه في نفسه أقبح القبائح. اهـ.
الإشارة: في الآية تهديدٌ لمَن يُؤذي أولياءَ الله، ويُخرجهم من مواطنهم بالهلاك العاجل أو الآجل. وقوله تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه} تقدّم في سورة هود الكلام عليها. وقال القشيري هنا، في تفسير البينة: هي الضياء والحُجة والاستبصار بواضح المحجة، فالعلماء في ضياء برهانهم، والعارفون في ضياء بيانهم، فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يُبصرون، وهؤلاء بحُكم الإلهام والوصول يستبصرون. اهـ.

.تفسير الآية رقم (15):

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}
{مثل}: مبتدأ حُذف خبره، أي: صفة الجنة ما تسمعون، وقدَّره سيبويه: فيما يُتلى عليكم مثل الجنة، وقيل: المثل زائد، أي: الجنة فيها أنهار... إلخ، و{كمَن هو خالد}: خبر لمحذوف، أي: أَمَن هو خالد في هذه الجنة، كمَن هو خالد في النار؟
يقول الحق جلّ جلاله: {مَثلُ الجنةِ} أي: صفتها العجيبة، العظيمة الشأن {التي وُعدَ المتقون} الشركَ والمعاصي، هو ما نذكره لكم، {فيها أنهار من ماء غيرِ آسنٍ} غير متغير الطعم واللون والرائحة، يقال: أسن الماء: إذا تغير، سواء أنتن أم لا، فهو آسن وأسِن، {وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمُه} كما تتغير ألبان الدنيا بالحموضة وغيرها، وانظر إذا تمنّاه كذلك مربّباً أو مضروباً. والظاهر: أنه يعطَاه كذلك، إذ فيها ما تشتهيه الأنفس. {وأنهارٌ من خبرٍ لذةٍ للشاربين} أي: لذيذة، ليس فيها كراهة طعم وريح، ولا غائلة سُكْرٍ، وإنما هي تلذُّذ محضٌ. و{لذة}: إما تأنيث لذّ بمعنى لذيذ، أو: مصدر نُعت به للمبالغة.
{وأنهار من عسل مُصفى} لم يخرج من بطون النحل فيخالطه شمع أو غيره، وفي حديث الترمذي: «إنَّ في الجنة بحرَ الماء، وبحرَ اللبن، وبحرَ العسل، وبحرَ الخمر، ثم تُشَقَّقُ الأنهارُ بعدُ» قال: حسن صحيح. وعن كعب: نهر دجلة من نهر ماء الجنة، والفرات نهر من لبنها، والنيل من نهر خمرها، وسَيْحان من نهر عسلها، والكل يخرج من الكوثر. قلت: ولعل الثالثة لمّا خرجوا إلى الدنيا تغيّر حالُهم، ليبقى الإيمان بالغيب. والله تعالى أعلم.
قيل: بُدئ من هذه الأنهار بالماء؛ لأنه لا يُستغنى عنه قط، ثم باللبن؛ لأنه يجري مجرى المطعوم والمشروب في كثير من الأوقات، ثم بالخمر؛ لأنه إذا حصل الريّ المطعومُ تشوقت النفسُ إلى ما يلتذ به، ثم بالعسل؛ لأنه فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم؛ فهو متأخر في الرتبة.
{ولهم فيها} مع ما ذكر من فنون الأنعام {من كل الثمراتٍ} أي: صنف من كل الثمرات. {و} لهم {مغفِرةٌ} عظيمة {من ربهم} أي: كائنة من ربهم، فهو متعلق أي: مغفرة عظيمة من ربهم. وعبّر بعنوان المغفرة دون الرحمة؛ إشعاراً بأن الميل إلى نعيم الأشباح نقص في الدارين يستوجب المغفرة.
أيكون هذا {كمَن هو خالد في النار}؟ أو: مثل الجنة كمثل جزاء مَن هو خالد في النار؟ وهو كلام في صورة الإثبات، ومعناه: النفي، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار، ودخوله في حيّزه، وهو قوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد: 14]، وفائدة حذف حرف الإنكار، زيادةُ تصويرٍ لمكابرة مَن يسوّي بين المتمسك بالبيّنة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة مَن يُثبت التسوية بين الجنة، التي يجري فيها تلك الأنهار، وبين النار، التي يُسقى أهلها الحميم الحار، المُشار إليه بقوله: {وسُقوا ماءً حميماً} حارّاً في النهاية، إذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم {فقَطَّع أمعاءهم} مصارينهم، التي هي مكان تلك الأشربة.
نسأل الله العافية.
الإشارة: مثل جنة المعارف، التي وُعدها المتقون كلَّ ما يشغل عن الله، فيها أنهار من ماء علوم الحقيقة، غير متغير صفاؤها، ولا متكدرة أنوارُها، وأنهار من لبن علوم الشريعة المؤيَّدة بالكتاب والسنّة، لم تتغير حلاوة معاملتها، ولا لذة مناجاتها، وأنهار من خمرة الشهود، لذة للشاربين لها، تذهل حلاوتها العقول، وتفوتُ عن مداركِ النقول، وأنها من عسل حلاوة المكالمة والمسارَرة والمناجاة، صافيات الأوقات، محفوظة من المكدرات، ولهم فيه من طُرف الحِكَم وفواكه العلوم، ما لا تحصيه الطروس، ولا تدركه محافل الدروس.
قال القشيري: {مثل الجنة} أي: صفتها كذا، وللأولياء اليوم، لهم شراب الوفاء، ثم شراب الصفاء، ثم شراب الولاء، ثم شراب في حال اللقاء، ولكل من هذه الأشربة عملٌ، ولصاحبه سُكرٌ وصحوٌ، فمَن تحسّى شراب الوفاء لم ينظر إلى أحد من الخلق في أيام غيبته عن إحساسه، وأنشدوا:
وَمَا سَرَّ صَدْرِي مُنْذُ شَطَّتْ بِكَ النَّوى ** أنيس وَلاَ كَأْسٌ ولاَ مُتطرف

ومَن شرب بكأس الصفا خلص له عن كل شوب بلا كدورة في عهده، فهو في كل وقت ظامئ عن نفسه، خالٍ عن مطالباته، قائم به، بلا شغل في الدنيا ولا في الآخرة، ومَن شرب كأس الولاء عدم فيه القرار، ولم يغب سيرُه لحظة، ليلاً ولا نهاراً، وَمن شرب في حال اللقاء أَنِسَ على الدوام ببقائه؛ فلم يطلب مع بقائه شيئاً آخر، لا من عطائه ولا من لقائه لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه. اهـ.
قلت: أما شراب الوفاء؛ فهو عَقد الإرادة مع الشيخ، أو عقد المحبة والخدمة مع الحق، فيجب الوفاء بكل منهما، وهو كشُرب العطشان من الماء العذب، وأما شراب الصفاء فهو صفاء العلم بالله، وهو كاللبن تتغذى به الأرواح في حال ترقيها إلى الحضرة، وأما شراب الولاء فهو شراب أهل التمكين من الولاية الكبرى، فيشربون من الخمرة الأزلية، فيسكرون، ثم يصحون، وفيها يقول الششتري رضي الله عنه:
لا شراب الدوالِي إنها أرضيه ** خمرُها دُون خمري خمرتي أزليه

وأما شراب حال اللقاء؛ فالمراد به، أوقات رجوعهم إلى البقاء، فيتفنّنون في علوم الحكمة وحلاوة المعاملة. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (16- 18):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)}
قلت: {آنفاً}: قال الزمخشري ومَن تبعه: ظرف، أي: الساعة، وقال أبو حيان: لا أعلم أحداً عدّه من الظروف، وجوَّز مَكيّ فيه الظرف والحالية. قال الهروي: {آنفاً} مأخذوة من: ائتنفت الشيء: إذا ابتدأته، وروضة أنُفٌ: إذا لم تُرعَ. المعنى: ماذا قال في وقت يقرب من وقتنا؟ و{أن تأتيهم}: بدل اشتمال من الساعة.
يقول الحق جلّ جلاله: {ومنهم مَن يستمعُ إليك} وهم المنافقون، كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمعون كلامه ولا يَعُونَه، ولا يُراعونَه حق رعايته، تهاوناً منهم، {حتى إِذا خرجوا من عندك قالوا للذين أُوتوا العلم} من الصحابة رضي الله عنهم: {ماذا قال آنفاً} ما الذي قال الساعة؟ على طريقة الاستهزاء، أو: ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه؟
وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، ويعيب المنافقين، فسمع المنافقون قوله، فلما خرجوا من المسجد، سألوا ابنَ مسعود عما قال النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء. وقال ابن عباس: أنا من الذين أُوتوا العلم، وقد سُئلت فيمن سُئل. ويقال: الناس ثلاثة: سامع عامل، وسامع غافل، وسامع تارك.
{أولئك الذين طبع اللّهُ على قلوبهم} لعدم توجهها إلى الخير أصلاً، {واتبعوا أهواءهم} الباطلة، فلذلك فعلوا ما فعلوا، مما لا خير فيه، {والذين اهتدوا} إلى طريق الحق {زادهم} الله بذلك {هُدىً} علماً وبصيرة، أو شرْح صدر بالتوفيق والإلهام، أو: زادهم ما سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم هدايةً على ما عندهم، {وآتاهم تقواهم} أعانهم عليها، أو: آتاهم جزاء تقواهم، أو: بيَّن لهم ما يتقون.
{فهل ينظرون} أي: ما ينتظرون {إِلا الساعةَ أن تأتيهم بغتةً} أي: تُباغِتهم بغتةً، وهي الفجاءة، والمعنى: أنهم لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة، وما فيها من عظائم الأهوال، وما ينظرون إلا إتيان نفس الساعة بغتة، {فقد جاء أشراطُها} علاماتهان جمع: شَرَط بالتحريك، بمعنى: العلامة، وهي مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وانشقاق القمر، والدخان، على قول. وقيل: قطع الأرحام، وقلة الكِرام، وكثر اللئام، فقوله تعالى: {فقد جاء أشراطها} تعليل لمفاجأتها، لا لمطلق إتيانها، على معنى: أنه لم يبقَ من الأمور الموجبة للتذكير أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها، فلم يرفعوا لها رأساً، ولم يعدوها من مبادئ إتيانها؛ فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة.
{فأنَّى لهم إِذا جاءتهم ذِكراهم} قال الأخفش: التقدير: فأنَّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم، أي: فمن أين لهم التذكير والاتعاظ إذا جاءتهم الساعة؟ ف {ذكراهم}: مبتدأ، وأنَّى: خبر مقدم، و{إذا جاءتهم}: اعتراض، وسط بينهما، رمز إلى غاية سرعة مجيئها، والمقصود: عدم نفع التذكير عند مجيئها، كقوله تعالى: {يَوْمَئِذ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23].
الإشارة: مجلس الوعظ والتذكير، إن كان المذكِّر من أهل التنوير، نهض المستمع له إلى الله قطعاً، لكن ذلك يتفاوت على قدر سريان النور فيه قطعاً، فمنهم مَن يصل النور إلى ظاهر قلبه، ومنهم مَن يصل إلى داخل القلب، ومنهم مَن يصل إلى روحه، ومنهم مَن يصل إلى سره، وذلك على قدر التفرُّع والاستعداد، فمَن وصل النورُ إلى ظاهر قلبه نهض إلى العمل الظاهر، وكان بين حب الدنيا والآخرة، ومَن وصل إلى قلبه نهض بقلبه إلى الله، ورفض الدنيا وراءه، ومَن وصل إلى روحه انكشف عنه الحجاب، ومَن وصل إلى سره تمكن من شهود الحق.
وفي الحِكَم: (تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيثما سار التنويرُ وصل التعبير)، وهذا إن حضر مستفيداً، وأما إن حضر منتقداً، فهو قوله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك...} الآية، والذين اهتدوا لدخول طريق التربية زادهم هُدىً، فلا يزالون يزيدون تربيةً وترقيةً إلى أن يصلوا إلى مقام التمكين من الشهود. قال القشيري: والذين اهتدوا بأنواع المجاهدات زادهم هُدىً لأنوار المشاهداتْ، واهتدوا بتأمُّل البرهان، فزادهم هُدىً برَوْح البيان، أو اهتدوا بعلم اليقين، فزادهم هُدىً بحق اليقين. اهـ.